اليقين بالله عز وجل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونسترشده ونؤمن به ونتوكل عليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا ونبينا وإمامنا محمداً عبده ورسوله سيد النبيين، تاج الأنبياء وخاتم الأصفياء سيدنا محمد صلى الله عليه وأصحابه، وأحبابه وأتباعه، ومن سلك هداه بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الناس إنه لا شرف أعلى من الإسلام، ولا كرم أعز من التقوى، ولا شفيع أنجح من التوبة ولا لباس أجلّ من العافية ولا وقاية أمنع من السلامة ولا أذهب بالفاقة من الرضا، ومن اقتصر على بُلغة الكفاف نال الراحة، والرغبة مفتاح التعب، والاحتكار مطية النصب والكلام لأمير المؤمنين حعلي بن أبي طالب عليه رضوان الله، الحسد آفة الدين، والحرص داعٍ إلى التقحم في الذنوب وهو داعٍ إلى الحرمان والبغي سائقٌ إلى الحين، والشره جامع لمساوئ العيوب، رب طمع خائب وأمل كاذب ورجاء يودي إلى الحرمان، وتجارة تؤول إلى الخسران، ألا ومن تورط في الأمور غير ناظر في العواقب فقد تعرض لمقدحات النوائب.
أيها الناس لا كنز أنفع من العلم، ولا عز أنفع من الحلم، ولا حسب أبلغ من الأدب، ولا نصب أوجع من الغضب، ولا جمال أحسن من العقل، ولا قرين شرٌ من الجهل، ولا سوءة أسوأ من الكذب، ولا حافظ أحفظ من الصمت، ولا غائب أقرب من الموت.
أيها الناس إنه من نظر في عيب نفسه شغل عن عيب غيره، ومن رضي برزق الله لم يأسف على ما في يد غيره، ومن سل سيف البغي قتله الله به، ومن حفر لأخيه بئراً وقع فيها، ومن هتك حجاب غيره كُشفت عورته، ومن نسي زلته استعظم زلات الناس، ومن أعجب برأيه ضل، ومن استغنى بعقله زل ومن تكبر على الناس زل، ومن سفه على الناس شتم ومن خالط العلماء وُقّر، ومن خالط الأنذال حُقّر، ومن حمل ما لا يطيق عجز، إنه لا مال هو أعوز من العقل، ولا فقر هو أشد من الجهل، ولا واعظ هو أبلغ من النصح، ولا عقل كالتدبير، ولا عبادة كالتفكير، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا ورع كالكف، ولا حلم كالصمت والصبر.
أيها الناس والكلام لعليٍ رضي الله عنه وكرم الله وجهه، إن في الإنسان عشر خصال يظهرها لسانه شاهد يخبر عن الضمير، وحاكم يفصل بين الخطاب، وناطق يرد به الجواب، وشافع تدرك به الحاجة، وواصف تعرف به الأشياء، وأمير يأمر بالحسن، وواعظ ينهى عن القبيح، ومعز تسكن به الأحزان، وحامد تجل به الأضغان.
أيها الناس من قل ذل، ومن جاد ساد، ومن كثر ماله رأس، ومن كثر حلمه نبُل، ومن فكر في ذات الله تزندق، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته، إن أفضل الفعال صيانةً صيانة العرض بالمال، ليس من جالس الجهال بذي عقل، ومن جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال، لن ينجو من الموت غنيٌ بماله، ولا فقير بإقلاله.
أيها الناس اعلموا أنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير إلى بطنها، والليل والنهار يتسارعان في هدم الأعمار.
إنها لمحات قطفناها من هدي أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه وهي من جوامع الكلم والحكم، أردت أن أمهد بها لحديثنا اليوم عن الحبيب المصطفى r لقد قرأناه في الأسابيع الماضية إمام الناس إلى الحرية، وقرأناه r إمام الناس إلى حقوق الإنسان، ولعمري أنه ما أنجز الإنسان من مجد في هذه الدنيا إلا كان رسول الله r له رأسا وكان له منه نورا، إنه r الهادي إلى كل حكمة والقائد إلى كل خير، وناصر الحق بالحق والهادي على صراط مستقيم ورغبت اليوم أن أدنو معكم لرسول r لأقرأ صحائف مجده ولكن هذه المرة لأقرأه من فؤاده وضميره، في يقينه بالله عز وجل وحسن اعتماده على الله سبحانه وتعالى، لقد رأيناه رائداً في مجال العدالة والحرية والمساواة إماماً يعلّم الناس الديموقراطيات، إماماً يعلم الناس حقوق الإنسان، ولكن ماذا عن فؤاده وقلبه ويقينه؟ لقد كان أكثر الناس أخذاً بالأسباب، لكنه كان أكثر الناس يقيناً بإرادة رب الأرباب، لقد كان أكثر الناس عملاً بالوسائل، ولكنه كان أكثر الناس توكلاً على الله ] فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ #إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ # وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ [.
كان r أكثر الناس حذراً وتدبيراً وتخطيطاً، رأيناه في رحلة هجرته يدبر الأمر لكل شيء، يأخذ لكل شيء عدته، ويأخذ لكل شيء خطته، وكان يدبر المسائل قبل الأقدار، ولكن عندما يشاء الله أن يقع القدر فإنه r كان يعلمك اليقين، على الرغم من كل ما أخذ به من الأسباب يوم الهجرة فأعد لجنة تمويه وهي علي بن أبي طالب ليموه على المشركين مقامه بفراشه، وأعد لجنة تموين وهي أسماء التي كانت تزوده بالزاد، وأعد لجنة تضليل وهي عامر بن فهيرة الذي كان يروح ويجيء بالأغنام حتى يعفو آثار قدميه، وأعد لجنة مرافقة وهو أبو بكر حتى يصحبه في رحلته، وأعد لجنة إعلام وهو عبد الله بن أبي بكر الذي كان يأتيهما بأخبار ما يبيت القوم، وأعد لجنة دلالة وهي عبد الله بن أريقط الذي كان خبيراً بالطرق والشعاب، ومع ذلك كله وقع القدر وعمي البصر ووصل المشركون إلى باب الغار رغم كل تخطيطه إعداده، وهناك في غاره يعلمك r يقينه وقرة عينه، أما أبو بكر صاحبه في الغار فقد وجل قلبه وأوجس في نفسه خيفة وسقطت مدامعه يرتجف فؤاده ويقول يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى موضع قدمي لرآنا، وقال: ( ويحك يا أبا بكر ).
قال: ما أبكي لنفسي إنما أنا نفس واحدة، ولكن أبكي أنك إن قتلت هلكت الأمة، وإنما إن قتلت قتل رجل واحد.
أما رسول الله r فعلى الرغم من الأسباب التي أخذ بها تهاوت ولم تغنِ عنهما في ذلك المقال شيئا، ولكنه كان أوثق الخلق رباطاً بالخالق والتفت إلى صاحبه يهزه: ( ويحك يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، والله لو دخلوا من ها هنا لخرجنا من ها هنا ) لقد كان درساً في اليقين علمه الرجل الذي قال عنه الله ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [.
كان أبو طالب يرسل للنبي r من بني هاشم يحرسونه كل يوم وكان رسول الله مهدداً من المشركين ] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [ وكان أبو طالب يرسل فتيان قريش من بني هاشم حماية ابن أخيه رسول الله، ذات يوم طلع عليهم رسول الله وكان بأشد أيام قريش باساً وبطشا، قال: ( يا عم إن الله قد أنزل علي ] وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [إن الله عصمني يا عم فلا حاجة لأحد أن يحرسني ] إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [ ).
وروي نزول الآية نفسها في يوم غزوة ذات الرقاع، وغزوة ذات الرقاع أشد غزوات المسلمين خوفاً حتى أنها سميت غزوة الخوف وفيها شرعت صلاة الخوف لأن المسلمين كانوا بطرف الوادي وكان أعداؤهم بطرف الوادي وتلاقت الأبصار، وكان الرجل بمرمى الحربة من الرجل وبمرمى الســهم من الرجل، وخاف الأصــحاب وأنزل الله تشـــريع صلاة الخوف ] وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِيناً [ المشهد في غاية الخوف وكان الزبير بن العوام في طائفة من الصحابة لا يبارحون خيمة رسول الله يوفون حولها، في يوم الخوف ذلك نزلت عليه الآية ] وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [خرج رسول الله من خيمته، وحينما وجدوا صوت خروجه تواثبوا لحمل السلاح، قال رسول الله ما بي إلا الخير، أيها القوم اصنرفوا فإن الله أنزل عليّ ] وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [هو في مرمى حرابهم وسهامهم وسيوفهم، في اللحظة التي يخشى فيها الإنسان من خيال الإنسان، إنها لحظة اللقاء، اللحظة التي فرضت فيها صلاة الخوف.
وسميت غزوة ذات الرقاع لأن المسلمين فقدوا فيها أزوادهم وأموالهم وأثوابهم حتى صاروا يرقعون على أقدامهم حتى لا يمشوا حفاة من شدة الجهد والضنك والأذى.
إنه مشهد اليقين الذي يقرأه المؤمن في حياة الحبيب الأعظم r مشهد أتمنى أن يهدى إلى كل قلب.
راسماًً يغرق في بحر الفِكَر
أيها المعتاض بالنوم السهر
إنما أنت أسير للقدر
سلم الأمر إلى مالكه
وصفا يحدث في وقت الكدر
كدر يحدث في وقت الصفا
من البرية مسكين ابن مسكين
إن الذي أنت ترجوه وتأمله
وسل الذي سواك من طين
لا تسألن بني آدم حاجة
إنها حكاية اليقين التي عمر بها فؤاد رسول الله r فلم تتغير قناعاته ولم تتبدل إرادته ولم يشأ يوماً أن يستجيب لأوهام الجاهلية الأولى وظل ينافح عن الحق والهدى والنور بما منحه الله من يقين حتى حق فيه قول الله عز وجل: ] وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [.
أيها الإخوة والأحبة ما أحوجنا اليوم إلى يقين رسول الله r لقد جاءته الدنيا عجلى، وجاءت لدعوته الأشجار ساجدة تمشي إليه على ساق بلا قدم وجاءته عروض المغريات من أموالٍ وقصور ومتاعٍ ونساء، ولكنه كان يوقن بوعد الله ويوقن بمجد الله عز وجل ولم يشأ أن يهادن وظل خطابه: ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أتلاك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه ).
ما أحوجنا اليوم أيها الإخوة حكاماً ومحكومين، ساسةً ورعية أمراء وفقراء، ما أحوجنا لثقافة اليقين، إن بلادنا قادمة على أيام قاسية وإن لاذي يدبر لهذه البلاد خطير وشرير، وإن عصمة هذه الأمة بتكاتفها وتوحدها وثقتها بوعد الله ويقينها بما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه وهو أصدق القائلين: ] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [.
اللهم اكتبنا في أهل اليقين وأخرج نزغات الشيطان من قلوبنا وأقول قولي وأستغفر الله.
م
ن
ق
و
ل
للأفاااااااااااده
خطبة الجمعة للدكتور محمد الحبش في جامع الزهراء
الخميس أكتوبر 04, 2007 3:46 am
